بقلم: د. عصام العريان
ساعات قلائل ويطل علينا شهر رمضان بوجهه المشرق، وتبتسم السماء من غرة الهلال رمز النور المبين.
الله أكبر الله أكبر، ربي وربك الله، هلال خير ورشد إن شاء الله.
إنه رمضان، فاصلة من الفواصل التي قدَّرها الله بين الشهور.
شهر التغيير في النفوس والأرواح، كما هو شهر التغيير في السلوك والعادات، إنه شهر القرآن كما هو شهر الصيام.
وقد روى ابن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليها وسلم أنه قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام، أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب، منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيُشفَّعان".
ويكفي للملازمة بين رمضان والقرآن قول الحق تبارك وتعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى والْفُرْقَانِ﴾ (البقرة: من الآية 185) صدق الله العظيم.
ولقد ازداد اهتمام المسلمين بالقرآن في السنوات الأخيرة، خاصةً في رمضان، وانتشرت مؤسسات تحفيظ القرآن، وزاد عدد القُرَّاء الذين يختمون القرآن في رمضان في صلوات التهجد والقيام، وهذا كله من بشائر الخير وملامح التغيير، لكن هلا توقفنا عند التلازم بين الصيام والقرآن؟!
إن مهمة القرآن في الوجود أن يهدي للتي هي أقوم.. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء: من الآية 9)، وأن يخرج الناس من الظلمات إلى النور ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (إبراهيم: من الآية 1)، وأن يرشد إلى سبل السلام.
ويحتاج القرآن ليؤثر في النفوس والعقول إلى استعدادٍ خاص، واسمع إلى الإمام الشهيد حسن البنا وهو يشرح لماذا نزل القرآن في رمضان؟: "وإنما نزل القرآن في رمضان؛ لأنه روحٌ من الله، يجب أن تجهز لها الأرواح بهجران المآثم والصوم من الشهوات جملةً حتى يصادف وعاءً خاليًّا فيتمكن، وتقع القلوب والأفئدة مبصرةً على ضوء واضح ساطع من سناه فترق وتخشع، فكانت المناسبة بين القرآن ورمضان" (خواطر رمضانية للإمام الشهيد).
ولقد غيَّر القرآن حياة المسلمين، وصنع جيلاً قرآنيًّا فريدًا، حمل رسالة الإسلام إلى آفاق الدنيا، وفتح بالقرآن القلوب والعقول قبل أن يفتح بالدعوة البلاد والأمصار.
لماذا؟ اسمع إلى البنا مرةً أخرى: "كان القرآن في أمةٍ خلت عند سلفنا الصالحين، ربيع قلوبهم، وقرة أعينهم، وحياة أرواحهم، ومشكاة صدورهم، وطيب أفواههم، وشهرة ألسنتهم، وغذاء عقولهم وأفكارهم، يقرءونه بالعشي والإصباح، ويتلونه بالليل والنهار، وهم حين يقرءون يفهمون، وحين يفهمون يعملون، وحين يعملون يُخلصون، فيكشف الله عن قلوبهم الحجب، ويفك عن أفئدتهم الأقفال والأغلال، فيدركون ما يريد القرآن الكريم منهم، ويتوجهون إلى ما وجَّههم إليه، وما هو إلا سعادة الدنيا والآخرة.. ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ (الزمر: من الآية 23).
فما بالنا اليوم وقد قلَّ تأثير القرآن في نفوسنا وأرواحنا؟
إن رمضان فرصة لا تعوض لاستعادة التأثير القرآني لإحداث التغيير الحقيقي في الفرد والجماعة، في الأمة والدولة.
إن الإمساك عن الشهوات والعادات في رمضان يُهيئ النفوس للإقلاع عن القعود عن التغيير والإصلاح في حياة الناس.
إن امتلاك الإرادة في رمضان يجب أن يظهر أثره في تقوية إرادة التغيير في الأمة كلها؛ للخروج من نفق الأزمات المظلم إلى نور الهداية الربانية، من ظلم العباد الجاثم على الصدور إلى رحمة الله الواسعة التي ساوت بين الجميع، من استبداد الحكام وانفرادهم بالأمر إلى الشورى التي أمر بها الإسلام ونتلوها في آيات القرآن.
أيها المسلمون في رمضان:
إنه شهر التغيير فلماذا لا تكسرون حاجز الخوف من الظالمين والمستبدين وتقاومون الظلم والفساد؟
إنه شهر الإرادة.. فلماذا لا تجمعون إرادتكم، وتنضمون إلى قوافل التغيير من أجل الإصلاح، وتشاركون في "حملة التوقيعات" التي جاوزت النصف مليون مواطن بل زادت عن ذلك؟
إنه شهر القرآن، والقرآن يدعوكم إلى تطبيق القاعدة الأساسية في التغيير.. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).
اسمع معي إلى البنا في خواطره الرمضانية التي كتبها في مقالاته في الثلاثينيات والأربعينيات من القرآن الماضي ينادي المسلمين "أيها الصائمون القائمون من المسلمين، إن القرآن لفظ، ودعوة، ودولة.. ولستُ أخشى على شيء منها الضياع والفناء، فإن معنى الحفظ الإلهي محيط بها جميعًا، فألفاظ القرآن باقية، ودعوته وأحكامه خالدة، ودولته أبدًا قائمة، ولن يخلي الله الأرض من قائمٍ لله فيها بحجته، ولا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من ناوأهم، يقاتلون حتى تقوم الساعة، كما بشَّر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم".
واليوم أخي المسلم.. أختي المسلمة..
وأنتم على مشارف شهر القرآن.. هل تدبرتم ماذا ستفعلون في رمضان؟ هل ستتخذون خطوةً إلى الأمام في علاقتكم بالقرآن؟
إذا كنت أخي، أختي، حافظًا متقًنا، فكن فاهمًا متدبرًا، متأثرًا عاملاً، داعيًا واعيًا بمقاصد القرآن ودعوة القرآن.
وإذا كنا قادرين على الحفظ، ورزقنا الله وعاءً جيدًا، فأتم في رمضان حفظ القرآن لأقصى درجة؛ لأن النفوس مهيأة ليس فقط للسماع ولكن للحفظ والإتقان.
وإذا كنا أقل درجةً فكن تاليًا بتأنٍ وليس بسرعةِ المتلهف على إنجاز أكبر قدرٍ من ختمات القرآن؛ لتقف أمام الآيات والأوامر والنواهي لتسأل نفسك، أين أنا من هذه الآيات وتلك الأوامر والنواهي؟
فالقرآن حجة لك أو عليك؟
وأقل درجة أن تكون مستمعًا بخشوعٍ إلى صوت حسن بالقرآن، خاصةً في صلاة التراويح، وفي التهجد بالليل والناس نيام، ولا تشغل نفسك بالنظر في المصحف لتتبع أخطاء وزلات الإمام، بل اشغل نفسك بالنظر في سلوكك إزاء ما تسمع من تعاليم وهداية القرآن... والله الموفق والمستعان.